الفصل العاشر علم الكلام
وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة. وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد. فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق والمآخذ ثم نرجع إلى تحقيق علم الكلام وفيما ينظر ونشير إلى حدوثه في الملة وما دعا إلى وضعه فنقول: إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة وعنها يتم كونه. وكل واحد من تلك الأسباب حادث أيضاً فلا بد له من أسباب أخرى. ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها لا إله إلا هو سبحانه. وتلك الأسباب في ارتقائها تتضاعف فتنفسح طولاً وعرضاً ويحار العقل في إدراكها وتعديدها. فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط سيما الأفعال البشرية والحيوانية فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود والإدارات إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته والقصد إليه. والقصودات والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضاً. وتلك التصورات هي أسباب قصد الفعل. وقد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى وكل ما يقع في النفس من التصورات فمجهول سببه إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية ولا على ترتيبها. إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضاً والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها وغاياتها. وإنما يحيط علماً في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة وتقع في مداركها على نظام وترتيب لأن الطبيعة محصورة للنفس وتحت طورها. وأما التصورات فنطاقها أوسع من النفس لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس فلا تكاد النفس تدرك الكثير منها فضلاً عن الإحاطة. وتأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب والوقوف معها فإنه واد يهيم فيه الفكر ولا يخلو منه بطائل ولا يظفر بحقيقة. قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. وربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمه وأصبح من الضالين الهالكين. نعوذ بالله من الحرمان والخسران المبين. ولا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه في قدرتك أو اختيارك بل هو لون يحصل للنفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحرزنا منها فلنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة. وأيضاً فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول لأنها إنما يوقف عليها بالعادة وقضية الاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر. وحقيقة التأثير وكيفيته مجهولة " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها وإلغائها جملة والتوجه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها لترسخ صبغة التوحيد في النفس على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا لاطلاعه على ما وراء الحس. قال صلى الله عليه وسلم: " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ". فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقت عليه كلمة الكفر وإن سبح في بحر النظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحداً بعد واحد فأنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب وأمرنا بالتوحيد المطلق. " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ". ولا تثقن بما يزعم لك الفكر مني أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رايه في ذلك. واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه أنه منحصر في مداركه لا يعدوها والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه. ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. وكذلك الأعمى أيضاً يسقط من الوجود عنده صنف المسوعات ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة لما أقروا به. لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكراً للمعقولات وساقطة لديه بالكلية. فإذا علمت هذا فلعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أكبر من خلق الناس. والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقاً من ذلك والله من ورائهم محيط. فاتهم إدراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشارع به في اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك. وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه يل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن للعقل حد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه. وتفطن من هذا الغلط من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق من ذلك. وإذا تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع. فإذا: التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيراتها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيره. وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه لا غير. وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين: " العجز عن الإدراك إدراك ". ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي فإن ذلك من حديث النفس. وإنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس. كما أن المطلوب من الأعمال والعبادات أيضاً حصول ملكة الطاعة والانقياد وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانياً. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتصاف. وشرحه أن كثيراً من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين قربة إلي الله تعالى مندوب إليها ويقول بذلك ويعترف به ويذكر مأخذه من الشريعة وهو لو رأى يتيماً أو مسكيناً من أبناء المستضعفين لفر عنه واستنكف أن باشره فضلاً عن التمسيح عليه للرحمة وما بعد ذاك من مقامات العطف والحنو والصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف. ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الاؤل وهو الاتصاف بالرحمة وحصول ملكتها. فمتى رأى يتيماً أو مسكيناً بادر إليه ومسح عليه والتمس الثواب في الشفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك ولو دفع عنه. ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده. وكذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به والعلم الحاصل عن الاتصاف ضرورة هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف. وليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل ويتكرر مراراً غير منحصرة فترسخ الملكة ويحصل الاتصاف والتحقيق وبجيء العلم الثاني النافع في الآخرة. فإن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى والنفع وهذا علم أكثر النظار والمطلوب إنما هو العلم الحالي الناشىء عن العادة. واعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا: فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف وما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف والتحقيق بها. ثم إن الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة. قال صلى الله عليه وسلم: " في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة " فإن الصلاة صارت له صفة وحالاً يجد فيها منتهى لذته وقرة عينه وأين هذا من صلاة الناس ومن لهم بها " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون " اللهم وفقنا " واهدنا الصراط المستقيم: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ". فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس ينشأ عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد وهو العقيدة الإيمانية وهو الذي تحصل به السعادة وأن ذلك سواء في التكاليف القلبية والبدنية. ويتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف كلها وينبوعها هو بهذه المثابة وأنه ذو مراتب: أولها التصديق القلبي الموافق للسان وأعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي وما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح. وتندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. وهذا أرفع مراتب الإيمان وهو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة ولا كبيرة. إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين. قال صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ". وفي حديث هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله فقال في أصحابه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قال: لا! قال وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ومعناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة والفطرة. وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان وهي في المرتبة الثانية من العصمة. لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوباً سابقاً وهذه حاصلة للمؤمنين حصولاً تابعاً لأعمالهم وتصديقهم. فبهذه الملكة ورسوخها يقع التفاوت في الإيمان كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف. وفي تراجم البخاري رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه مثل: " أن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص وأن الصلاة والصيام من الإيمان وأن تطوع رمضان من الإيمان والحياء من الإيمان ". والمراد بهذا كله الإيمان الكامل الذي أشرنا إليه وإلى ملكته وهو فعلي. وأما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء وحمله على التصديق منع من التفاوت كما قال أئمة المتكلمين ومن اعتبر أواخر الأسماء وحمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت. وليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق إذ التصديق موجود في جميع رتبه لأنه أول ما يطلق عليه اسم الإيمان وهو المخلص من عهدة الكفر والفيصل بين الكافر والمؤمن فلا يجزي أقل منه. وهو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت وإنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم. واعلم أن الشارع وصف لنا هذا الإيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق وعين أموراً مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا وهي العقائد التي تقررت في الدين. قال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وتؤمن بالقدر: خيره وشره ". وهذه هي العقائد الإيمانية المقررة في علم الكلام. ولنشر إليها مجملة لتتبين لك حقيقة هذا الفن وكيفية حدوثه فنقول: اعلم أن الشارع لما أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الذي رد الأفعال كلها إليه وأفرده بها كما قدمناه وعرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود إذ ذلك متعذر على إدراكنا ومن فوق طورنا. فكلفنا: أولاً اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين وإلا لما صح أنه خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقدير ثم تنزيهه عن صفات النقص وإلا لشابه المخلوقين ثم توحيده بالاتحاد وإلا لم يتم الخلق للتمانع ثم اعتقاد أنه عالم قادر فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الإيجاد والخلق ومريد وإلا لم يخصص شيء من المخلوقات ومقدر لكل كائن وإلا فالإرادة حادثة. وأنه يعيدنا بعد الموت تكميلاً لعنايته بالإيجاد ولو كان للغناء الصرف كان عبثاً فهو للبقاء السرمدي بعد الموت. ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحواله بالشقاء والسعادة وعدم معرفتنا بذلك وتمام لطفه بنا في الإنباء بذلك وبيان الطريقين. وأن الجنة للنعيم وجهنم للعذاب. هذه أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية وأدلتها من الكتاب والسنة كثيرة. وعن تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققها الأئمة إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل. فحدث بذلك علم الكلام. ولنبين لك تفصيل هذا المجمل. وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة وهي سلوب كلها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها. ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي آخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات وأخرى في الصفات. فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه. وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول الكثير منهم: اقرأوها كما جاءت أي آمنوا بأنها من عند الله. ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن يكون ابتلاء فيجب الوقف والإذعان له. وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه: ففريق شبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملاً بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار. وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية وجمع بين الدليلين بتأويلها. ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات: إن كانا لمعقولية واحدة من الجسم وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة ففد وافقونا في التنزيه ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسماً من أسمائه. ويتوقف مثله على الإذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا واندفع ذلك بما اندفع به الأول ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن. ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له وفي كتاب الحافظ بن عبد البر وغيرهم فإنهم يحومون على هذا المعنى. ولا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم. ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء وألف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم ذلك من تعدد القديم بزعمهم وهو مردود بأن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام. وهو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ وإنما هو إدراك للمسموع أو المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس فقضوا بأن القرآن مخلوق وذلك بدعة صرح السلف بخلافها وعظم ضرر هذه البدعة ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها. وخالفهم أئمة السلف فاستحل لخلافهم أيسار كثير منهم ودماؤهم. وكان ذلك سبباً لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعاً في صدور هذه البدع. وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه. وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف. وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل. ورد على المبتدعة في ذلك كله وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح وكمل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب. وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية في قولهم إنها من عقائد الإيمان. وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة فيها لمن هي له وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعة علم الكلام: إما لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي. وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم وهذبها ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل: إثبات الجوهر الفرد والخلاء وأن العرض لا يقوم بالعرض وأنه لا يبقى زمانين. وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة ولو ظهر منها بعض الشىء فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل وأوسع القول فيه. ثم لخصه في كتاب الإرشاد واتخذه الناس إماماً لعقائدهم. ثم انتشر من بعد ذلك علم المنطق في الملة. وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط يسبر به الأدلة منها كما يسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدتهم إلى ذلك. وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمى طريقة المتأخرين. وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم. ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحداً من اشتباه المسائل فيهما. واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته وهو نوع استدلالهم غالباً. فالجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته ونظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجود. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فروضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد. وإذا تأملت حال الفن في حدوثه وكيف تدرج كلام الناس فيه صدراً بعد صدر وكلهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن وأنه لا يعدوه. ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخر. ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تأليفهم. إلا أن هذه الطريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. وأما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين وأصلها كتاب الإرشاد وما حذا حذوه. ومن أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي والإمام ابن الخطيب فإنها وإن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم. وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارىء عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته. ولقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم من المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص فقال: " نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب ". لكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها. والله ولي المؤمنين.
الفصل الحادي عشر في أن عالم الحوادث الفعلية
إنما يتم بالفكر أعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة كالعناصر وآثارها والمكونات الثلاثة عنها التي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلها متعلقات القدرة الإلهية وعلى أفعال صادرة في الحيوانات واقعة بمقصودها متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتب وهي الأفعال البشرية ومنها غير منتظم ولامرتب وهي أفعال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع فإذا قصد إيجاد شيء من الأشيا فلأجل الترتيب بين الحوادث لا بد من التفطن بسببه أو علته أو شرطه وهي على الجملة مبادئه إذ لا يوجد إلا ثانياً عنها ولا يمكن إيقاع المتقدم متأخراً ولا المتأخر متقدماً. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخراً عنه وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادىء في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد وشرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي انتهى إليه الفكر فكان أول عمله. ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته مثلاً لو فكر في إيجاد سقف يكنه انتقل بذهنه إلى الحائط الذي يدعمه ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر ثم يبدأ في العمل بالأساس ثم بالحائط ثم بالسقف وهو آخر العمل. وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة وأول الفكرة آخر العمل فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض. ثم يشرع في فعلها. وأول هذا الفكر هو المسبب الأخير وهو آخرها في العمل. وأولها في العمل هو المسبب الأول وهو آخرها في الفكر. ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الانتظام في الأفعال البشرية. وأما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب فيما يفعل إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا بالفكر. ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة وغير المنتظمة إنما هي تبع لها اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها فكانت مسخرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه فكان كله في طاعته وتسخره. وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى: " إني جاعل في الأرض خليفة " فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته. فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث ومنهم من لا يتجاوزها ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشطرنج: فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات والخمس الذي ترتيبها وضعي ومنهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق لأن لعب الشطرنج بالملكة ومعرفة الأسباب والمسببات بالطبع لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي وكيفية حدوثه
إنك تسمع في كتب الحكماء قولهم أن الإنسان هو مدني الطبع يذكرونه في إثبات النبوات وغيرها. والنسبة فيه إلى المدينة وهي عندهم كناية عن الإجتماع البشري. ومعنى هذا القول أنه لا تمكن حياة المنفرد من البشر ولا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه. وذلك لما هوعليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبداً بطبعه. وتلك المعاونة لا بد فيها من المفاوضة أولاً ثم المشاركة وما بعدها. وربما تفضي المعاملة عند اتحاد الأعراض إلى المنازعة والمشاجرة فتنشأ المنافرة والمؤالفة والصداقة والعداوة. ويؤول إلى الحرب والسلم بين الأمم والقبائل. وليس ذلك على أي وجه اتفق كما بين الهمل من الحيوانات بل للبشر بما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال وترتيبها بالفكر كما تقدم. جعل منتظماً فيهم ويسرهم لإيقاعه على وجوه سياسية وقوانين حكمية ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح وعن الحسن إلى القبيح بعد أن يميزوا القبائح والمفسدة بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة وعوائد معروفة بينهم فيفارقون الهمل من الحيوان وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال وبعدها عن المفاسد. هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحس كل البعد ولا يتعمق فبها الناظر بل كلها تدرك بالتجربة وبها يستفاد لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات وصدقها وكذبها يظهر قريباً في الواقع فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. ويستفيد كل واحد من البشر القدر الذي يسر له منها مقتنصاً له بالتجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه حتى يتعين له مايجب وينبغي فعلاً وتركاً. وتحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. ومن تتبع ذلك سائر عمره حصل له العثورعلى كل قضية قضية. ولا بد بما تسعه التجربة من الزمن. وقد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة إذ قلد فيها الأباء والمشيخة والأكابر ولقن عنهم ووعى تعليمهم فيستغني عن طول المعاناة في تتبع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه واتباعه طال غناؤه في التأديب بذلك فيجري في غير مألوف ويدركها على غير نسبة فتوجد آدابه ومعاملاته سيئة الأوضاع بادية الخلل ويفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. وهذا معنى القول المشهور: " من لم يؤدبه والده أدبه الزمان ". أي من لم يلفن الآداب في معاملة البشر من والديه وفي معناهما المشيخة والأكابر ويتعلم ذلك منهم رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الأيام فيكون الزمان معلمه ومؤدبه لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه. وهذا هو العقل التجريبي وهو يحصل بعد العقل التمييز في الذي تقع به الأفعال كما بيناه. وبعد هذين مرتبة العقل النظر في الذي تكفل بتفسيره أهل العلوم فلا يحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. والله جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون. في علوم البشر وعلوم الملائكة إنا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم: أولها: عالم الحس ونعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك ثم نعتبر الفكر الذي اختص به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانية علماً ضرورياً بما بين جنبينا من مدارك العلمية التي هي فوق مدارك الحس فتراه عالماً آخر فوق عالم الحس. ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره التي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات نحو الحركات الفعلية فنعلم أن هناك فاعلاً يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة. وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة. وربما يستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني وذواته بالرؤيا وما نجد في النوم ويلقى إلينا فيه من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة وتطابق الواقع في الصحيحة منها فنعلم أنها حق ومن عالم الحق. وأما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحس. ولا نجد على هذا العالم الروحاني برهاناً أوضح من هذا فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلاً. وما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته وترتبها المسماة عندهم بالعقول فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه كما هو مقرر في كلامهم في المنطق. لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية. وهذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان ويحكمها. وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية والروحانية. ويشترك في عالم الحس مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته وهي ذوات مجردة عن الجسمانية والمادة وعقل صرف يتحد فيه العقل والعاقل والمعقول وكأنه ذات حقيقتها الإدراك والعقل فعلومهم حاصلة دائماً مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة. وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كله مكتسب والذات التي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئاً شيئاً حتى تستكمل ويصح وجودها بالموت في مادتها وصورتها. فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي والإثبات دائماً بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين. فإذا حصل وصار معلوماً افتقر إلى بيان المطابقة وربما أوضحها البرهان الصناعي لكنه من وراء الحجاب. وليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة. وقد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المعطابقة بالعيان الإدراكي. فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد الذي في علمه وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية. وكشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالأذكار التي أفضلها صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وبالتنزه عن المتناولات المهمة ورأسها الصوم وبالوجهة إلى الله بجميع قواه. والله علم الإنسان ما لم يعلم.